الثلاثاء، 12 أكتوبر 2010

بين حضارة التكديس والتكريس 1 / أ . د صلاح سلطان

 
مفارقات
 بين حضارة التكديس والتكريس (1)
أ.د. صلاح الدين سلطان
المستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية - مملكة البحرين
عضو المجالس الفقهية فى أوربا وأمريكا والهند
3 ذو القعدة 1431 هـ، 12/10/2010م
كلما تجولت في عالمنا العربي والإسلامي وجدت نموذجا حضاريا هشا لأنه يعتمد على فلسفة التكديس، فالبيوت الصغيرة والكبيرة والقصور الفارهة تتكدس فيها أنواع من المفروشات والآلات والملابس والتليفزيونات، لكنها كلها مصنوعة في غير ديارنا العربية والإسلامية، فإذا خرجت خارج البيت وجدت السيارات تضيق بها الطرقات وتنتشر الأبنية الضخمة للبيع والشراء والتي سميت "المولات" و"السوبرماركات" التي يتجول ويتسكع فيها أعداد غفيرة من الرجال والنساء والبنين والبنات، وإذا ظهرت سلعة أو موضة  أو أغنية جديدة تزاحم إليها القوم كأنهم حمر مستنفرة فرَّت من قسورة، وإذا جئت إلى الاحتفالات سواء في أعياد الميلاد أو الأعراس أو الأعياد الوطنية وجدت الإسراف والتبذير في أعلى مستوياته، وهي فرصة ليهبش أصحاب منهجية التكديس جزءا من ميزانية البلد أو الشركات أو الأسرة إلى جيبه الخاص، وتزداد منهجية التكديس عندما يموت كل خمس ثواني إنسان لا يجد الكفاف من الغذاء والكساء والدواء والمسكن، بينما تكدست اللحوم والشحوم في كروش فئات محدودة في عالمنا العربي والإسلامي، ففي بلد خليجي يستهلك شعبه 60% من دخلهم على كروشهم!، وفي بلد آخر فازوا بأكبر سندويش طوله أكثر من 2 كلم، بعد أن فازوا من قبل بجائزة أكبر "تورتة" على مستوى العالم كانت أكبر من جبال تهامة!.
فإذا انتقلت إلى بعض الدول الصناعية الكبرى، ودخلت إلى البيوت فستجد أثاثا قليلا بسيطا يسهل طيه واستعمال الحجرة بالليل في النوم وفي النهار للمعيشة، وفي خارج البيت دراجة أو سيارة صغيرة، وكنت في إحدى جامعات الصين، وأردنا الانتقال إلى جامعة أخرى، فجاء إليَّ شباب الجامعة بدراجة كي ننتقل إلى الجامعة الأخرى وتساءلت بحكم أوضاعنا العربية: هل هذا يخلُّ بأدبيات ومكانة أستاذ الجامعة!، فقال لي أحد الشباب: "أيهما أفضل هذه الدراجة التي ستركبها أم الدراجة المجاورة لها؟ فقلت: بل هذه الدراجة التي سأركبها، فقالوا: الدراجة المجاورة هي دراجة رئيس الجامعة! ولا يستعمل سيارة الجامعة المتواضعة إلا في الأمور الضرورية، فتوكلت على الله وانتقلت إلى الجامعة الأخرى بالدراجة دون حرج! وكنت سعيدا وأنا أتحرك في رمضان بين أبنية جامعة طوكيو بالدراجة، ولو فعلت الشيء نفسه في جامعة الأم "جامعة القاهرة" أو أية جامعة عربية فسأكون حديث طلاب وطالبات الجامعة كلها وربما استدعيت للتحقيق بسبب عدم احترام المكانة الجامعية لأساتذة الجامعة.
فهل نخطو إلى حضارة التكريس في بناء الإنسان إيمانيا وأخلاقيا وعلميا وبدنيا واجتماعيا واقتصاديا؛ لننتج شيئا مما نستعمله، أم سنظل نزحف على بطوننا ونمد أيدينا في ذلة "إبرة لله" "سيارة لله" "طيارة لله" "صاروخ يا محسنين"! يقتل به بعضنا بعضا ويبقى غيرنا يفركون أيديهم مستمتعين ساخرين!.