التابعي إياس بن معاوية المزني
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .
وُلِد إياسُ بن معاوية بن قُرِّةَ المزني سنة (46) للهجرة في منطقة اليمامة في نجد، وانتقل مع أسرته إلى البصرة، وبها نشأ وتعلَّم، وتردَّد على دمشق في يفاعته، وأخذ عمن أدركهم من بقايا الصحابة الكرام وجِلَّة التابعين، ولقد ظهرت على الغلام المزني علائِمُ النجابة ، وأماراتُ الذكاء منذ نعومة أظفاره .
فإذا أكرمَ اللهُ عزوجل أحدًا من أخواننا الكرام بطفل ذكيٍّ جدا, فلا بدَّ أن يهيِّئه تهيئةً تتناسب مع قدراته، ومن يدريك أن هذا الطفل يكون أحدَ أعلام الأمة؟ والطفلُ الفطِن يظهر عليه ذلك منذ نعومة أظفاره، فإذا أكرمَ اللهُ عزوجل أحدًا من أخواننا الكرام بغلام عنده قدرات عالية جدًّا, فينبغي أن يعتنيَ به كثيرا، فلعلَّ اللهَ سبحانه وتعالى ينفع المسلمين به، والحقيقة في البلاد الأخرى أنا لا أقول: متقدِّمة، ولكن بالمقياس المادي متقدِّمة, هناك مدارس خاصة للمتفوِّقين، لأن هؤلاء أعلام الأمة، وكلُّ بلد لها ترتيب، نحن نعطي الأذكياء كلِّيةَ الطِّب، هذا اتِّجاهنا، أي 230 درجة فما فوق للطب، ثم صيدلة، وأقل ننزل إلى الهندسة، إلى آخره، وبعضُ البلاد أعلى العلامات لكلية الحقوق، لماذا؟ لأن خرِّيجي هذه الكلية في الأعمِّ الأغلب محافظون ووزراء و سفراء، بيدهم مقاليد الأمور، فينبغي أن يكونوا على مستوى رفيع جدًّا من القدرات .
ولو أُتيح لبلد ما أن يجعل النخبةَ العالية جدًّا دعاةً إلى الله عزوجل، لأن هذا الداعي يبني النفوسَ، فالمفروض من هؤلاء الذين يصعدون المنابرَ، والذين يتصدَّون لخدمة الخلق وتوجيههم، ولبناء نفوسهم، المفروض أن يكونوا على مستوى رفيع جدًّا من الفطانة والذكاء ، والحقيقة أن الذكاء قدرة عالية جدًّا، والدليل أن صفة من صفات الأنبياء المشتركة هي الفطانة، ولو تعاملتَ مع أيِّ نبيٍّ فضلا عن أخلاقه وقيمه، والوحيِ الذي يأتيه، وعن مستواه الرفيع، وعن خلقه، فضلا عن كل ذلك, فهو في درجة من الذكاء تفوق حدِّ الخيال، هذه قدرات أودعها اللهُ فيهم، لتعينهم على أداء رسالتهم، فلا ينبغي لكلية من كليات الجامعة أن تستأثر بالعباقرة، هكذا الأكمل .
من المواقف التي سجلها التاريخ لإياس وشهد له بذكائه ونفاذ بصيرته : |
1- موقفه مع هذا الذمي :
ظهرت على هذا الغلام علائمُ النجابة وأمارات الذكاء منذ نعومة أظفاره، وجعل الناسُ يتناقلون أخبارَه ونوادرَه، وهو ما زال صبيًّا صغيرا، رُوِي عنه أنه كان يتعلَّم الحساب في كتَّاب لرجل من أهل الذِّمة، فاجتمع عند المعلِّم أصحابٌ له، وجعلوا يتكلَّمون في أمور الدين، وهو ينصت إليهم من حيـث لا يدرون، فقال المعلِّم لأصحابـه: ((ألا تعجبون للمسلمين فهم يزعمون أنهم يأكلون في الجنة ولا يتغوَّطون! فالتفت إياسٌ إليه، وقال:
أتأذن لي يا معلِّم بالكلام فيما تخوضون فيه؟ قال: نعم تكلَّم، قال الفتى: أكلُّ ما يُؤكل في الدنيا يخرج غائطا؟ فقال المعلِّم: لا، قال: فأين يذهب الذي لا يخرج؟ قال المعلِّم: يذهب في غذاء الجسم, قال الفتى: فما وجهُ الاستنكار منكم, إذا كان يذهب بعضُ ما نأكله في الدنيا غذاءً, أن يذهب كلُّه في الجنة في الغذاء؟)) طبعا قسمٌ من الغذاء يسهم في بناء الخلايا ، وقسم يخرج، وقسم يبقى، كما قال النبيُّ الكريم: إن نوحا لم يقم عن خلاء قط إلا قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأخرج عني أذاه .
2- موقفه مع قاضي دمشق :
تقدَّم الغلامُ سنةً بعد سنة، وتقدَّمت مع هذه السنين أخبارُ ذكائه أينما حلَّ، فدخل دمشق وهو لا يزال غلاما، فاختلف مع شيخ من أهل الشام في حقٍّ من الحقوق، ولما يئس من إقناعه بالحجَّة، دعاه إلى القضاء، فلما صار بين يدي القاضي احتدَّ إياسٌ، ورفع صوته على خصمه، فقال له القاضي: ((اخفِض صوتك يا غلام، فإن خصمك شيخ كبير السن والقدر، فقال إياس: ولكن الحقَّ أكبر منه، فغضب القاضي، وقال: اسكُت، فقال الفتى: ومَن ينطق بحجتي إذا سكتُّ ، فازداد القاضي غضبا، وقال: ما أراك تقول منذ دخلت مجلس القضاء إلا باطلا، فقال إياس : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال له: أحقٌّ هذا أم باطل؟ فهدأ القاضي, وقال: حقٌّ و ربِّ الكعبة)) أحيانا الإنسان على صغر سنه, يُؤتى الحجة البالغة في وقتها، ولا تُقدَّر بثمن .
3- موقفه مع عبد الملك بن مروان :
أكبَّ هذا الفتى على العلم، ونهل منه ما شاء اللهُ أن ينهل، حتى بلغ منه مبلغا جعل الشيوخَ يخضعون له، ويأتمُّون به، ويتتلمذون على يديه على الرغم من صغر سنه، والعالم شيخ ولو كان حدَثًا، والجاهل حدثٌ ولو كان شيخا .
ذات مرة زار عبدُ الملك بن مروان البصرة قبل أنْ يَليَ الخلافة، فرأى إياسا وكان يومئذٍ فتًى يافعا، لم ينبت شاربُه بعد، ورأى خلفه أربعةً من القراء من ذوي اللحى بطيالستهم الخضر، وهو يتقدَّمهم، فقال عبد الملك: ((أُفٍّ لأصحاب هذه اللحى، أمَا فيهم شيخٌ يتقدَّمهم، فقدَّموا هذا الغلام، ثم التفت إلى إياس، وقال: يا غلام كم سنُّك؟ -أي ازدراءً له- فقال: أيها الأمير, سني أطال بقاءَ الأمير كسنِّ أسامة بن زيد حين ولاَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم أبو بكر وعمر، فقال له عبد الملك: تقدَّم يا فتى تقدَّم, بارك الله فيك)) .
4- موقفه مع الصحابي الجليل أنس بن مالك الأنصاري :
وذات سنة أيضًا خرج الناسُ يلتمسون هلالَ رمضان، وعلى رأسهم الصحابيُّ الجليل أنسُ بن مالك الأنصاري، وكان يومئذٍ شيخا كبيرا، قد قارب المائة، فنظر الناسُ في السماء، فلم يروا شيئا، لكن أنسَ بن مالك جعل يحدِّق في السماء، و يقول: ((لقد رأيتُ الهلالَ، ها هو ذاك، وجعل يشير إليه بيده، فلم يرَه أحدٌ، عند ذلك نظر إياسٌ إلى أنس رضي الله عنه، فإذا شعرةٌ طويلة في حاجبه قد انثنت حتى غدتْ قُبالة عينه، وكأنها الهلال، فاستأذنه في أدب، ومدَّ يده إلى الشعرة فمسحها وسوَّاها، ثم قال له: أترى الهلال الآن يا صاحب رسول الله؟ فجعل أنسُ ينظر, ويقول: كلا ما أراه، أين ذهب؟)) .
هذا الصحابيّ متقدِّم في السن، وإياس كان فطِنًا وأديبًا مؤَدَّبًا، سحب هذه الشعرة فغاب الهلال، أحد الشعراء وصف جسمه النحيل بأنه كهلال الشك .
شاعت أخبارُ ذكاء إياس، وذاعت وصار الناسُ يأتونه من كل حدب وصوب، ويلقون بين يديه ما يعترضهم من مشكلات في العلم والدين .
5- موقفه مع هذا الدهقان :
رُوِي أن دهقانا أتى مجلسه, فقال: ((يا أبا وائلة، ما تقول في المسكِر؟ قال: حرام، قال: ما وجهُ حرمته؟ أقنعني، وهو لا يزيد عن كونه ثمرا وماءً, غُلِيا على النار فصار خمرًا، وكل ذلك مباح لا شيءَ فيه، فلماذا هو حرام؟ فقال إياسُ: أفرغتَ من قولك يا دهقانُ، أم بقيَ لديك ما تقوله؟ قال: بل فرغتُ، قال: لو أخذتُ كفًّا من ماء وضربتُك به, أكان يوجعك؟ قال: لا، قال: لو أخذتُ كفًّا من تراب وضربتُك به, أكان يوجعك؟ قال: لا، قال: لو أخذتُ كفًّا من تِبنْ فضربتك به, أكان يوجعك؟ قال: لا، قال: لو أخذت الترابَ، ثم طرحتُ عليه تبنا، وصببتُ فوقه الماءَ، ثم مزجتهما مزجا، ثم جعلتُ الكتلة في الشمس حتى يبست، ثم ضربتك به، أكان يوجعك؟ قال: وقد تقتلني به، قال: هكذا شأنُ الخمر، فهو حينما جُمِعَت أجزاؤه خُمِّر فأصبح حراما، كما أن الماء و التراب والتبن لو ضربتك به لا تُؤذى، أما إذا جمعتُ هذه العناصر الثلاثة، ويبَّستها في الشمس, فأصبحت كتلةً قاسية، ورميتُك به, قال: قد تقتلني، قال: هكذا الخمر)) .
والحقيقة كان هذا القاضي على جانب عالٍ جدا من الذكاء، وظهرت له مواقفُ تدلُّ على فرط ذكائه، وإن علماء النفس, قالوا: هناك منحنى، هذا المنحنى يمثِّل نِسب الذكاء بين البشر، تسعون بالمائة ذكاؤهم متوسِّط، وخمسة بالمائة عباقرة، وخمسة بالمائة أغبياء، لكن الخطَّ العريض دائما هو الخطُّ المتوسِّط .
6- مواقفه في القضاء :
لما ولِيَ القضاءَ, جاءه رجلان يتقاضيان عنده، فادَّعى أحدُهما أنه أودع عند صاحبه مالا، فلما طلبه منه جحده، فسأل إياسُ الرجلَ المدَّعَى عليه عن أمر الوديعة فأنكرها، وقال: ((إن كانت لصاحبي بيِّنة فليأتِ بها، وإلا فليس له عليَّ إلا اليمين، فلما خاف إياسٌ أن يأكل الرجلُ المالَ بيمينه التفت إلى المودِع، وقال له: في أيِّ مكان أودعته المالَ؟ أي أعطيته، قال: في مكان كذا، قال: وماذا يوجد في ذلك المكان؟ قال: شجرة كبيرة جلسنا تحتها، وتناولنا الطعام معًا في ظلِّها، ولما هممنا بالانصراف دفعتُ إليه المالَ، فقال له إياسٌ: انطلِق إلى المكان الذي فيه الشجرة, فلعلَّك إذا أتيتها, ذكَّرتك أين وضعت مالك، ونبَّهتْك إلى ما فعلته به؟ فجعل المدَّعي يذهب إلى الشجرة، وأوهمَ المتَّهم أنه بريء، اذهب أيها الرجل إلى الشجرة فلعلك نسيت المالَ هناك، هذا بريء، قال: ثم عُد إليَّ لتخبرني بما رأيت، فانطلق الرجل إلى المكان، وقال إياس للمدَّعى عليه: اجلس إلى أن يجيء صاحبُك، فجلس، ثم التفت إياس إلى من عنده من المتقاضيين، وطفق يقضي بينهم، وهو يرقب الرجل بطرفٍ خفيٍّ، حتى إذا رآه قد سكن, ارتاحت نفسُه, وكأنه صار بريئا واطمأن، التفت إليه وسأله على عجل: أتقدِّر أن صاحبك قد بلغ الموضع الذي أعطاك فيه المال؟ هل تقدِّر أنه وصل إليه؟ قال له: لا إنه بعيد من هنا، فقال له إياس: يا عدوَّ الله تجحد المالَ، وتعرف المكان الذي أخذته فيه، واللهِ إنك لخائن، فبُهِت الرجل، وأقرَّ بخيانته، فحبسه حتى جاء صاحبُه، وأمره بردِّ وديعته إليه)) .
ومن ذلك ما رُوي من أن رجلين اختصما إليه في قطيفتين مما يوضع على الرأس، ويُسدَل على الكتفين، مثل القلنسوة أو غطرة ، إحداهما خضراء جديدة ثمينة، وأخرى حمراء بالية، قال المدَّعي: ((نزلتُ إلى الحوض لأغتسل، ووضعتُ قطيفتي الخضراء مع ثيابي على حافة الحوض، وجاء خصمي, فوضع قطيفته الحمراء إلى جانب قطيفتي، ونزل إلى الحوض، و خرج قبلي، فلبس ثيابه، وأخذ قطيفتي، فألقاها على رأسه وكتفيه، ومضى بها، فخرجتُ على إثره, وتبعتُه, وطالبته بقطيفتي، فزعم أنها له، فقال إياسٌ للرجل المدَّعى عليه: وما تقول أنت ؟ قال: هي قطيفتي، وهي في يدي، فقال إياس للرجل المدَعي: ألك بيِّنة؟ قال: كلا، فقال لحاجبه: أحضر لي مشطًا، فأُحضر له، فمشط شعرَ رأس الرجلين، فخرج من رأس أحدهما زغب أحمر من نُثار صوف القطيفة، وخرج من رأس الثاني زغبٌ أخضر من نثار صوف القطيفـة، فقضى بالقطيفة الحمراء لصاحب الزغب الأحمر، وبالقطيفة الخضراء لصاحب الزغب الأخضر)) أخذ المشط وسرَّح الشعر حتى حصل على بعض الزغب الملوَّن، وعرف مَن هو صاحب الحق؟ .
7- موقفه مع هذا المخادع بدينه :
من أخبار فطنته أيضا: أنه كان في الكوفة رجل يظهر للناس الصلاحَ، ويبدي لهم الورعَ والتقى، حتى كثُر الثناءُ عليه، واتَّخذه بعضُ الناس أمينا لهم يأتمنونه على مالهم إذا سافروا، ويجعلونه وصيًّا على أولادهم إذا أحسُّوا بدنوِّ الأجل، وقد دخل رجلٌ مرة المسجد، وتفرَّس في المصلين، إلى أن اهتدى إلى رجلٍ كثيرِ الخشوع، متألَّقِ الوجه، فأعجبه، فبعد أن أتمَّ صلاته قال له: ((إني أردتُ أن أعطيك بعض المال كأمانة عندك، وأنا ذاهب إلى الحج، وقد توسَّمتُ فيك الصلاح، فقال له هذا المصلِّي: وأنا أيضا صائم، قال له: واللهِ أعجبتْني صلاتُك، ولكن لم يعجبني صيامك !)) .
فهناك أناس يتَّخذون الدينَ طريقا لكسب المال، أتاه رجلٌ واستودعه مالا، ولما احتاج الرجلُ إلى المال, طالبه فأنكره، فمضى إلى إياس، وشكا له الرجل، فقال للمشتكي: ((أعَلِمَ صاحبَك أنك تريد أن تأتيني؟ قال: كلا، فقال: انصرِف، وعُد إليَّ غدا، ثم أرسل إياس إلى الرجل المؤتمن، وقال له: لقد اجتمع لديَّ مالٌ كثير للأيتام، لا كافل لهم، وقد رأيتُ أن أودعه لديك، وأن أجعلك وصيًّا عليهم، فهل منزلك حصين، ووقتك متَّسِع؟ قال: نعم أيها القاضي، هذا الذي جعل نفسه صالحا، قال: تعالَ إليَّ بعد غٍد، وأعِدْ موضعًا للمال، وفي اليوم التالي جاء الرجل المشتكي، فقال له إياس: انطلِق إلى صاحبك، واطلب منه المال، فإن أنكره فقل له: أشكوك إلى القاضي، فأتاه الرجل، فطلب منه المال، فامتنع عن إعطائه وجحده، فقال له: إذًا أشكوك إلى القاضي، فلما سمع ذلك منه دفع المال إليه فورا، وطيَّب خاطره، فرجع الرجل إلى إياس، وقال: لقد أعطاني صاحبي حقي، وجزاك الله خيرا، ثم جاء المؤتمَن بعد غدٍ إلى إياس في موعده، ومعه الحمالون، فزجره وأشهره، قال له: بئس الرجل أنت يا عدوَّ الله، لقد اتخذْتَ الدِّين مطية للدنيا، أي جعل نفسه صالحا، فلما عرض عليه القاضي أموالَ الأيتام الكثيرة، و جاء الخصمُ يطالبه بالمال، فأعطاه المال لكيلا يفضحه عند القاضي، والقاضي جعلها فخًّا له)).
الحقيقة إذا أراد القاضي أن ينصف الناس بإخلاص شديد، فإنّ اللهَ عزوجل يلهمه، وهذا مأخوذ من حديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ, وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا, وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ, وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
فإنْ صدق الإنسان في خدمة الخلق هداه ذلك إلى الطريق الصحيح، والحقيقة أن القضاء شيء صعب، إذا لم توجد التقوى، فقد تلتبس الأمورُ على القاضي، لكن القاضي يحتاج إلى فراسة، ويحتاج إلى فطنة، ويحتاج إلى إلهام من الله عزوجل، ولكنَّ إياسا على الرغم من شدَّة ذكائه وفطنته, فهناك من أقام عليه الحُجَّةَ، وفوق كل ذي علم عليم .
إليكم هذه القصة التي حدثت مع إياس يرويها لنا : |
حدَّث عن نفسه, فقال: ((ما غلبني أحدٌ قط, سوى رجل واحد، وذلك أني كنتُ في مجلس القضاء في البصرة، فدخل عليَِّ رجل، فشهد عندي أن البستان الفلاني هو ملكٌ لفلان، وحدَّده لي، طبعا الشاهد دليل قويٌّ في القضاء، فجاء الشاهد، وقال: البستان الفلاني لفلان، فقلتُ لهذا الشاهد: وكم عددُ شجرات البستان؟ فأطرق قليلا، ثم رفع رأسه، وقال: منذ كم يحكم سيدُنا القاضي في هذا المجلس؟ قال له: منذ كذا سنة، قال له: كم عددُ خشب سقف هذه الغرفة ؟ قال: فلم أعرف, وقلتُ: الحق معك، ثم أجزتُ شهادته)) كذلك الإنسان كلما تفوَّق في شيء, فإنّ اللهَ عز وجل يحجِّمه بأن يأتيه شخصٌ يبدو أنه أكثر منه تفوُّقا .
أنا في الحقيقة لا أريد أن أجعل كما قلتُ في بداية الدرس: أن الذكاء وحده هو كلُّ شيء، لكن ما أجمل أن يكون عقلُ الإنسان متَّقِدًا، وقلبُه صافيا نقيًّا، ما الذي يحصل في الحياة ؟ تجد أحيانا إنسانا يتَّقد ذكاءً، لكنه على خُبث، ذكاء شيطاني, وانحراف، وتفلُّت من أوامر الدين، وأكل لأموال الناس بالباطل، وتجد شخصا آخر يعجبُك تفوُّقه، ولكن لا يعجبك عقلُه، فالمنحرف قد يكون فطنًا جدًّا، والمستقيم قد يكون محدودا جدا، وهذا شيء مؤلِم جدا، لكن إذا اجتمع العقلُ الراجح مع القلب الطاهر, فهذا من أغرب, ومن أندرِ النماذج البشرية .
من إكرام الله لإياس : |
بلغ إياسُ بن معاوية السادسة والسبعين من عمره، ورأى نفسَه وأباه في المنام راكبين على فرسين، فجريا معًا، فلم يسبق أباه، ولم يسبقه أبوه، وكان والدُه قد مات عن ستٍّ وسبعين سنة.
أنا سمعتُ كثيرا عن أناس صالحين أكرمهم الله عزوجل بأن عرَّفهم بدنوِّ أجلهم، وهي قصص كثيرة جدا، ولعلَّ هذا من إكرام الله للإنسان، يا تُرى النبيُّ عليه الصلاة و السلام, هل نعاه اللهُ بالقرآن الكريم؟ ما الآية؟ قال تعالى:
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾
[سورة النصر الآية: 1-3]
أي انتهت مهمَّتك، والعظماء الحياة لا تعنيهم، حياتهم جليلة وعظيمة، فإذا أدَّوا رسالتهم فقد انتهت حياتهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام أدَّى رسالته، ألا تقل له أنت إذا وقفتَ أمام قبره: ((أشهد أنك بلَّغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغُمة، وجاهدت في الله حقَّ الجهاد)) واللهُ عزوجل أقسم بعمر النبي صلى الله عليه وسلم, فقال تعالى:
﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾
[سورة الحجر الآية: 72]
إنّه لشيء عظيم أنْ يعيش الإنسان الحقَّ، وفي سبيل الحق، ومن أجل نشر الحق، وأن يبذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس من أجل الحق، والإنسان حجمُه عند الله بحجم عمله الصالح، وأعظم مرتبة تنالها عند الله؛ أن تكون جنديًّا من جنود الحق، ولا أنسى هذا الحديث الشريف: يا بِشر، لا صدقة ولا جهاد، فبم تلقى الله إذًا؟ والإنسان لا بدّ له من عمل يذهب به إلى الله عز وجل، والدنيا فانية، قال تعالى:
﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾
[سورة آل عمران الآية: 196-197]
قال علي كرم اللّه وجهه لكميل بن زياد: ((يا كميل, القلوب أوعية فخيرها أوعاها، احفظ ما أقول لك، الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، المال تنقصه النفقة، ومحبة العلم دين يدان بها، مكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعـد موته، وضيعـة المـال تزول بزواله، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، ههنا - وأشار لصدره - علماً لو أصبت له حمله)) .
وفي ذات ليلة، أوى إياسٌ إلى فراشه، وقال لأهله: ((أتدرون أيَّةُ ليلة هذه؟ قالوا: كلا، قال: في هذه الليلة استكمل أبي عمرَه، -كلُّ واحد منا له عمر محدود، الله أعلم به، فقد كنا من حوالي شهر في دعوة خارج دمشق، والداعي بيته صغير لا يتَّسع للضيوف، له زميل عنده مزرعة جميلة، أخذنا إلى هذه المزرعة، هذا كان موظَّفا كبيرا في الزراعة، استقال وأخذ هذه المزرعة، وأنشأ فيها جنات معروشات، ودواجن، شيء جميل، واللهِ كأنه الآن أمامي، يتمتَّع بصحة، وهنا الهواء نقيٌّ، وأنا أعمل رياضة كل يوم، وهنا صفاء، وراحة نفسية، شعرنا أننا نعيش في جنة، وهو غير متقدِّم في السن، الأمس بلغني أنه قد مات، هذه الدنيا، يبني الإنسانُ دنياه لبِنةً لبنةً، أخـذ بيتا صغيرا فكبَّره، وزيَّنه، وأفرشه، واشترى بيتا لابنه، واشترى محلا، وتمكَّن أن يأخذ بيتا في المصيف، اشترى سيارة، وهو يبني يأتيه ملَكُ الموت، لقد ترَك كلَّ شيء وراءه في الدنيا، والمغادرة صعبة، هذه الساعة واللهِ الذي لا إله إلا هو, ما رأيتُ إنسانا عاقلا إلا جعل هذه الساعة نصبَ عينيه، قال تعالى:
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
[سورة الحجر الآية: 92-93]
القرش الواحد نُحاَسب عليه، اسمع الآية الكريمة، قال تعالى:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾
[سورة الزلزلة الآية: 7]
كنَّسْ الغرفة في الشتاء، والشمس داخلة إليها، تجد زغبات عالقة في الهواء، هذه هي الذرة، لشدَّة انعدام وزنها، وهي لا وزن لها، فتعلق في الهواء، قال تعالى:
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾
[سورة الزلزلة الآية: 8]
أحدُ أثرياء البلاد توفاه الله، وأولادُه خافوا أن يقضي الليلة الأولى في القبر وحده بشكل مخيف، عرضوا على إنسان فقير جدا معدم أن ينام معه ليلة في القبر، ويعطونه مبلغا ضخما، هي قصة رمزية طبعا، جاء منكر ونكير، ووجدا اثنين في القبر، غريب! واحد حرَّك رجله من خوفه، قالا: هذا حيٌّ، وليس بميت، تعالوا نبدأ به، أجلسُوه، وقد لبِسَ كيسَ خيشٍ، وربطه بحبل، من أين أتيت بهذا الحبل؟ قال: من البستان، وكيف دخلت البستان من دون إذن؟ فضربوه، فثاني يوم خرج يصيح، وقال: الله يعين أباكم، حبل من أين أخذته، وكيف دخلت إلى البستان؟ طبعا السؤال أدقُّ من ذلك، قال تعالى:
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
[سورة الحجر الآية: 92-93]
في هذه الليلة استكمل أبي عمرَه، فلما أصبح وجدوه ميِّتا)) لهذا النبيُّ الكريم كان يقول ، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ, فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ, فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ, ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي, وَبِكَ أَرْفَعُهُ, إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا, وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ))
[أخرجه البخاري في الصحيح]
الإنسان إذا نام هناك احتمال أن يستيقظ، واحتمال ألاّ يستيقظ، فإذا استيقظ يحفظه الله ، وإذا لم يستيقظ يرحمه اللهُ .